“خلينا نبيعو..من بعد غادي نعطيك جميع الوثائق الخاصة بعقار كاريان بنمسيك والكونترا (العقد) لّي وقعو والدي (سي احمد بن الحسين) مع الفرنسيين في 1953، ولّي سمح بترحيل الأسر المغربية من الحي المحمدي ولارميطاج إلى كاريان بنمسيك بشكل قانوني”، كانت هذه هي الجملة الأخيرة للحاج إدريس وهو يحاول منع إماطة اللثام عن حقيقة عمرها 67 سنة، حقيقة لا يعلمها أي واحد من 13 ألف عائلة التي جرى ترحيلها من كاريان سنترال على مدى 25 سنة، معتقدا أنه الوحيد الذي يملك تلك الوثائق.
الحاج إدريس، الذي ينتمي إلى عائلة عكاشة ذات النفوذ خلال فترة الحماية الفرنسية وبعد الاستقلال، يعرف أدق التفاصيل الخاصة بملف عقار تمتد مساحته الحالية على 25 هكتارا، والذي ينتظر أن يدر على أسرته ما بين 200 و250 مليار سنتيم، لكن شريطة أن تنتهي عملية ترحيل 80 أسرة ما زالت تعيق تحقيق حلم هذه الأسرة “النافذة”.
اتفاقية مخفية عن الأعين
حكاية عقار “الشيخ احمد” مرت بمراحل، انطلاقا من تحفيظه تحت رقم 14994/س في سنة 1932 بعقود عرفية سلمها الشيخ احمد بن الحسين المديوني الهراوي، قبل أن تحل سنة 1953 وتقرر سلطات الحماية الفرنسية ترحيل مجموعة كبيرة من الأسر المغربية المقيمة في كاريان سنترال الشهير وكاريان لارميطاج، واستعانت بالشيخ احمد الذي كان يشتغل، في الوقت ذاته، مع مصالحها، حيث سلمها ما يزيد عن 25 هكتارا كي تقيم مشروعا لبيوت مؤقتة لأسر المقاومين الذين قضّوا مضجع الفرنسيين مباشرة بعد نفي الملك محمد الخامس إلى مدغشقر.
فرنسا وجدت يد العون لدى لَخْليفة أحمد، المشهور بجبروته وسط أهالي منطقة الهراويين، والذي وقّع مع ممثل الحماية الفرنسية، في شهر دجنبر، اتفاقية تنص على السماح للسلطات الفرنسية بإقامة حي سكني منظم يضم بيوتا ومراحيض وحمامات عمومية وأزقة مرصفة وقنوات للصرف الصحي ومساحات خضراء ومحلات تجارية.
الاتفاقية سمح خلالها اليد اليمنى للسلطات الفرنسية المغربي لخليفة سي احمد أن تستغل الأرض في إقامة بيوت مؤقتة لمدة 15 سنة، لكن وأمام سكوت الأخوين عكاشة (أحمد وقاسم) عن الأمر واستمرارهما في تحصيل ضريبة “الصنك” من الساكنة، فإن العقد ظل ساريا ولم يجر الطعن فيه أمام القضاء أبدا، وفق تأكيدات الحاج إدريس عكاشة نفسه.
الداودي بنمحمد، البالغ من العمر 61 سنة، قضاها كاملة بكاريان بنمسيك، يعرف جيدا الحاج إدريس ووالده لخليفة سي احمد، ويتذكر كيف أن صاحب العقار كان يحرص لسنوات على جمع “الصنك” شهريا من السكان، والذي انتقل من 25 سنتيما في الخمسينات إلى 12 درهما تقريبا في نهاية سبعينيات القرن الماضي.
مشروع تهيئة سيدي عثمان
بنمحمد لا يعلم أصلا بوجود الاتفاقية التي وقعها والد الحاج إدريس عكاشة مع سلطات الحماية الفرنسية، والتي أتاحت لوالده الانتقال من كاريان لارميطاج إلى كاريان سنترال بشكل قانوني، لكنه في المقابل حرص على الاحتفاظ بمجموعة من الوثائق التي تم بمقتضاها تسجيل البيت الذي سلم لوالده من طرف الفرنسيين لدى مصلحة التسجيل والتمبر من أجل نقل ملكيته من أبيه المتوفى إلى الورثة.
حكاية الداودي، والتي تتطابق تماما مع قصة باقي سكان هذا الحي الذي تحولت بناياته إلى بيوت صفيحية بسبب إهمال السلطات المحلية، تتواصل. فانطلاقا من سنة 1980، أمرت السلطات السكان بالكف عن أداء المال للخليفة سي احمد استعدادا لإحصائهم إثر قرار السلطة المركزية في الرباط ترحيل السكان نحو حي مولاي رشيد ونزع ملكية الأرض بشكل نهائي من أسرة عكاشة، من أجل إنجاز مشروع للتهيئة الحضرية لسيدي عثمان، حيث أنهت مصالح الأملاك المخزنية كل المساطر التي قامت بمقتضاها بتحويل ملكية هذا العقار إلى اسم الدولة المغربية برقم جديد للرسم العقاري تحت عدد 163650/12، وذلك لإنشاء مدارس تعليمية ومنشآت عمومية وحدائق على مساحة 25 هكتار.
تضارب مصالح
لم تتقبل أسرة عكاشة الواقع وشرعت في إجراء مجموعة من الاتصالات على أعلى المستويات، ولجأت إلى القضاء واتصلت بمجموعة من المسؤولين المركزيين في الرباط، قبل أن تتمكن من استعادة العقار سنة 1999 تحت الرقم 14994/س، وهو أمر غير ممكن قانونيا، وفق تأكيدات الأستاذ المتخصص في العقار المصطفى غفير، المحامي في هيأة الدار البيضاء، الذي قال لهسبريس: “العقار عندما يتم إنشاؤه عقب عملية استخراج لا يمكن أن يعود من جديد إلى رقمه الأصلي، بل يحتفظ بالرقم الجديد نفسه، ولا يمكن إلغاؤه إلا برقم جديد آخر، وهذه مسألة منصوص عليها في القانون المغربي”.
مسألة استغرب لها مسؤولون في مقاطعة ابن مسيك، الذين فضلوا عدم الكشف عن هوياتهم درءا لأي تضارب للمصالح مع عائلة عكاشة، تتعلق بالكيفية التي مكّنت الأسرة من استرجاع العقار في اسمها من جديد، على الرغم من انتقال ملكيته في سنة 1984 إلى الدولة المغربية، وتستفيد من تحويل المنشآت التي كانت مضمنة في تصميم التهيئة لسنة 1989، والذي حرص على ترجمة مشروع الملك الراحل الحسن الثاني على أرض الواقع قبل دفنه تحت أنقاض عمارات سكنية تتألف من 5 و6 طوابق.
المعطيات الغائبة عن المسؤولين
سعيد لشكر، حفيد مقاوم نقلته الحماية الفرنسية من سنترال إلى بنمسيك بمقتضى مقرر لسلطاتها بعمالة الدار البيضاء سنة 1953، عبّر عن استغرابه لكل هذه المعطيات التي تقتضي فتح تحقيق من طرف السلطات المركزية في الرباط للوقوف على مكامن الخلل، وهو الاستغراب نفسه الذي أبداه برلماني من المنطقة، بالتصريح لهسبريس: “هذه معطيات غائبة عن المسؤولين وتستوجب التحرك لإماطة اللثام عن الحقيقة”.
لشكر يقول إن الحماية الفرنسية رحلت جده إلى بنمسيك ولم تشرده، و”الآن يعيش أبناؤه وأحفاده المعاناة نفسها، حيث عوض نقلهم إلى مسكن يؤويهم والذي أدوا مبلغه في سنة 1982 لفائدة صندوق الإيداع والتدبير، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى بناء كوخ بلاستيكي، لأنهم لا يتوفرون على القدرة المالية التي تمكنهم من مواجهة مصاريف إضافية لكراء بيت أو حتى غرفة”.
دفن مشروع الراحل الحسن الثاني
وختم الشاب لشكر كلامه بالقول: “نعم هناك مجموعة من مناطق الظل التي يجب على السلطات التحرك والتحقيق فيها، من ضمنها سبب سكوت عائلة عكاشة عن الاتفاقية التي وقعها والدهم لخليفة أحمد مع السلطات سنة 1953، ثم استمرارهم في تحصيل مبالغ الصنك إلى سنة 1982، وبعد ذلك تنتزع منهم الأرض المحفظة تحت رقم 14994/س، وما تلاها من نقل للملكية في اسم الدولة المغربية، لتنتزع من هذه الأخيرة وتعود من جديد في اسم عائلة عكاشة تحت الرقم القديم، دون الحديث عن دفن مشروع الحسن الثاني الذي نص على بناء مشاريع عمومية على هذه الأرض التي تمتد على مساحة 25 هكتارا، والتي يسيل لها لعاب الجميع بعدما تحولت بقدرة قادر إلى مناطق سكنية”.
يسكت سعيد لشكر ومعه باقي سكان كاريان بنمسيك، سكوت تلاه مطلب واحد موجه للسلطات في ولاية الدار البيضاء ووزارة الداخلية، مطلب بسيط لا يتعدى فتح تحقيق في الموضوع، تحقيق يميط اللثام على حقيقة متأخرة، لكنها قد تعيد ملكية هذا العقار إلى مستحقيه، وهي الدولة المغربية!!