مع بداية الصباح الأولى ليوم الأربعاء، حركة دؤوبة يعرفها شارع الجولان على طول الرصيف المجاور لسوق القريعة سباتة بالدار البيضاء.
بائعون وبائعات يعرضون بضائع مختلفة اغلبها مستعملة من أوان و ملابس و مفروشات و غيرها من السلع، غير عابئين بعرقلة حركة السير التي تنشط في هذا الشارع الرئيسي بالمنطقة. لكن المثير للانتباه هو العدد الكبير للبائعات اللواتي وجدن في هذا المكان، وعلى جنبات المحلات المتواجدة
داخل القريعة مصدرا للرزق، يعرضن بضائعهن وكلهن أمل في كسب ما يساعدهن على التصدي لضنك العيش، وسد باب الفاقة في مواجهة متطلبات الحياة الثقيلة التي باتت تنوء بها كواهل الرجال قبل النساء.
نساء من كل الأعمار لا ينحدرن فقط من سباتة والمناطق المجاورة، بل أيضا من مختلف أحياء الدار البيضاء وضواحيها.
يحكي عبد الغاني بائع في مقتبل العمر يجلس بجانب إحدى العربات المنتصبة الخاصة ببيع الملابس القديمة الخاصة بالرجال « يعرف السوق رواجا كبيرا كل يوم أربعاء ، خصوصا بعد إزالة سوق الأربعاء الأسبوعي المجاور لمنطقة الهراويين وحي السالمية 2 منذ حوالي خمس سنوات مما جعل العديد من التجار، وخصوصا بائعي الملابس والأدوات المستعملة، يلجؤون إليه والى وغيره من الأسواق المنتشرة بمدينة الدار البيضاء، وتشكل النساء نسبة مهمة داخل هذا السوق بحيث يعمل اغلبهن على بيع ملابسهن القديمة أو ملابس يتحصلن عليها من أقاربهن وباقتنائها من الباعة الآخرين بثمن زهيد».
بدأت الشمس تتوسط كبد السماء معلنة عن بداية صيف مشمس و حار، ومعها ارتفع عدد الزائرين الذين يبحثون عن سلع رخيصة بأثمان قد تصل في أحيان كثيرة إلى دراهم قليلة ،لترتفع الحناجر بالمناداة على الزبائن والإعلان عن ثمن ما يعرضونه «شري من عندي ابنتي، أولدي.. خود من عندي، كاينين شي حوايج غير بدرهم « تنادي «مي صفية» وهي تحملق في كل المارة بعينين يختزلان ألما دفينا عسى أن يبتسم لها الحظ وتتمكن من بيع بعض قطع الملابس المستعملة التي تضعها أمامها بعناية، والتي لا يتعدى عددها أصابع اليد الواحدة، تجلس منزوية قرب إحدى البراريك، امرأة في عقدها السابع رسم الزمن أخاديد على وجهها الصغير تتكلم بدون أي تحفظ و بعفوية كبيرة عن معاناتها اليومية وعن قلة ذات يدها التي تدفع بها إلى الجلوس تحت أشعة الشمس الحارقة لساعات طويلة: «كل يوم أربعاء أقصد هذا السوق من اجل بيع ملابس قديمة لأحصل على بعض من المال أعيل به أسرتي الصغيرة، كان ابني فيما مضى يساعدني على مواجهة أعباء الحياة، ولكني اليوم أصبحت المعيل الوحيد لأسرتي المكونة من زوجة ابني وحفيدي بعد إن سجن ابني».
أما حنان وهي أيضا بائعة في العقد الخامس من عمرها تضع وشاحا على وجهها لا يظهر إلا عينيها، فإن قصتها لا تختلف عن قصة « مي صفية» إلا في بعض التفاصيل لكون مشكلتها الأساسية تتمثل في إدمان زوجها للكحول ورفضه الدائم الإنفاق على أسرته على الرغم من أجرته المرتفعة التي يبذرها في اقتناء الكحول حسب تصريح حنان : «المشكل لم يقف عند هذا الحد، بل تعداه إلى تعرضنا للتعنيف الدائم منه لإجباري على إعطائه كل ما احصل عليه من البيع في السوق، حتى ابنتي التي تبلغ من العمر 17 سنة أصبحت تعاني نفسيا من تصرفاته وعنفه، كما أنها امتنعت عن الخروج للعمل بعد أن تركت مقاعد الدراسة خوفا من ابتزاز والدها وسلبها أجرتها، لذلك ركنت إلى زوايا البيت المظلمة في انتظار مصير مجهول. لا أحد يعلم أنني أبيع في هذا السوق إلا أسرتي الصغيرة، لا أتحمل نظرات الشفقة في عيون من أعرفهم، لذلك اخفي ملامح وجهي بهذا الوشاح «، لتبتعد حنان بخطوات مسرعة مستجيبة لنداء زبون جديد.
منهن أيضا من اتخذن من البيع في الأسواق موردا ثانيا للرزق إلى جانب عملهن الرئيسي، كحال فاطمة (اسم مستعار) ذات العشرين من عمرها، تضع نظارة سوداء كبيرة تكاد تخفي جميع ملامح وجهها ، تجلس بالقرب من مجموعة من البائعات اللواتي كن يتجاذبن أطراف الحديث بصوت مرتفع دون أن تلتفت إليهن ، تتكلم بتحفظ «أعمل في إحدى الوحدات الصناعية واستغل عطلتي في بيع الملابس القديمة من اجل الحصول على دخل إضافي أرقع به أجرتي الضئيلة التي لا تكفي مصاريفي اليومية».
قصص وحكايات يحبل بها هذا السوق لنساء يعانين الفقر والتهميش، إضافة إلى معاناتهن داخله بسبب السرقة والابتزاز من بعض الأشخاص الذين يفرضون عليهن أداء بعض الدراهم مقابل عدم تعرضهن لمضايقات تمنعهن من بيع بضاعتهن، لكنهن يجدن في هذا السوق، إلى جانب كونه موردا للرزق، متنفسا و مكانا للبوح و مشاركة همومهن مع من يعشن نفس ظروفهن.
غير بعيد عن هؤلاء النسوة تنتصب براريك قديمة مهترئة لأنشطة مختلفة، كالنجارة ، وصناعة المفروشات، ومحلات بيع المجوهرات، والحدادة، وبيع الحبوب، والخضر، ودكاكين «الفقهة»، في حين يظهر بعضها مهجورا إلا من بعض القطط المنتشرة هنا وهناك.
محمد الحرش أحد باعة المجوهرات و نائب رئيس جمعية تجار وحرفيي سوق القريعة سيدي عثمان يقول « إن هذا السوق عرف فيما مضى رواجا كبيرا لجميع أنشطته الحرفية والتجارية، لكنه أصبح اليوم يعرف كسادا كبيرا نظرا للمشاكل الكبيرة والكثيرة التي يتخبط فيها كالبناء العشوائي للمحلات و انعدام شبكة الماء و الكهرباء والتطهير و الانتشار والزحف الكبير لبراريك» الفقهة المشعوذين» وتراكم الأزبال وانعدام الأمن…»
يضيف محمد بحرقة كبيرة «انتظرنا كثيرا تحرك الجهات المعنية لإعادة هيكلة هذا السوق لكن دون فائدة تذكر، لكننا لم نيأس وقمنا بشراكة مع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية بتعبيد الطريق المتواجد بسوق القريعة كما راسلنا الجهات المسؤولة وطالبنا بإعادة هيكلة السوق وإيلائه بعض الاهتمام للخروج به من الوضعية المزرية التي يعاني منها لكن لم نجد جوابا شافيا واستجابة جدية لمطالبنا».
لم ينف عبد الله الطلحي رئيس مصلحة الأسواق بمقاطعة سيدي عثمان الوضعية المزرية  التي يعاني منها هذا السوق القديم والذي يرجع وجوده إلى خمسينيات القرن العشرين، مؤكدا « سوق القريعة يمتد على مساحة كبيرة تقدر ب18 ألف متر مربع كما انه يضم 475 محلا تجاريا وحرفيا غير منظمة وعشوائية، لذلك، ومع بداية التسعينات، قدمت جماعة سيدي عثمان سابقا عدة مقترحات لإعادة هيكلته أهمها مبادرة إنشاء مركب تجاري يستفيد منه أصحاب المحلات التجارية لكن المشروع لم يكتب له النجاح نظرا لكونه جاء مجاورا للمركب الإداري لعمالة مولاي رشيد وعمالة بن مسيك، كما قام مجلس المقاطعة بتقديم ملتمسات إلى مجلس مدينة الدار البيضاء باعتباره الجهة المكلفة بذلك من اجل إصلاح وإعادة هيكلة مجموعة من الأسواق من بينها سوق القريعة سيدي عثمان ووضع حد للمشاكل التي يعاني منها تجاره وحرفيوه».
قاربت الشمس على المغيب وبدأت النسوة البائعات يحزمن ماتبقى من بضائعهن، منهن من ارتسمت ابتسامة عريضة على وجهها توحي بتحقيقها الغرض الذي جاءت لأجله، ومنهن من تركن المكان وهن يتذمرن ويندبن حظهن العاثر الذي لم يساعدهن على بيع إلا القليل من» بضائعن» بثمن زهيد لا يكفي لتغطية مصروف يوم واحد، يودعن المكان على أمل أن يكن أوفر حظا في المرة القادمة داخل سوق يئن تحت وطأة التهميش والفوضى…

(صحافية متدربة)